من مجلة النضال الطبقي الشهرية - رقم 163 (نوفمبر 2014)
في ختام مؤتمر "إعادة إعمار غزة" الذي عقد في القاهرة 12 أكتوبر 2014، تعهد ممثلو الدول المشاركة بهبة قدرها 5.4 مليار دولار (4.3 مليار دولار). وبين خمسين بلد موجود في القاهرة، كانت قطر الأكثر سخاء ب 800 مليون يورو تليها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الذين وعدوا على التوالي ب450 و315 مليون يورو.
لكن بحسب تصريحات وزير الخارجية النرويجي لقناة تلفزيونية مصرية، وحده نصف المبلغ الموعود به سيستخدم لإعادة إعمار غزة. هذا يعني أن المساعدات ستكون أقل بكثير من ال4 مليار دولارالتي طلبتها السلطة الفلسطينية ل"إعادة إعمار غزة". وبما أن دفع هذه المبالغ مشروط باستئناف "مفاوضات السلام" مع إسرائيل، وهو أمر لا يحدده لا السلطة الفلسطينية ولا حماس، ليس من المؤكد إذن أن يحصل الفلسطينيون في النهاية على مساعدة فعلية.
كما حصل نقاش بين الدول المانحة حيث تبين أن عددا منها قد "تعب" من دفع تكاليف الأضرار التي تخلفها كل عملية اسرائيلية. وقال الأمين العام الامم المتحدة بان كي مون أنه "غاضب جدا" لانه كما قال "لقد سبق للمجتمع الدولي الاجتماع في مصر لإعادة إعمار غزة في عام 2009، (...) ودوامة الدمار ما زالت مستمرة، بل أنها تتفاقم." بالتأكيد، ولكن ماذا فعلت كل هذه "الدول المانحة" التي تدعي "أنها قد سئمت"، بدءا من أقواها كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، لمنع دولة إسرائيل من ارسال طائراتها لقصف غزة؟ لا شيء على الإطلاق! وعلاوة على ذلك، لم يطلب شيئ من اسرائيل بشأن إعادة الاعمار، وهي المسؤولة الأولى عن الدمار. وإنه لأمر معتاد أن لا يطلب شيء من هذه الدولة التي يسمح لها القيام بالقصف والقتل في غزة ومن دون أي عقاب، وذلك يحصل بتواطؤ ضمني، وأحيانا فعلي، من قبل القوى العظمى. فعملية "الحدود الوقائية" العسكرية هي ليست فقط الثالثة التي تشنها اسرائيل على غزة خلال الست سنوات الماضية، ولكنها أيضا الأكبر منذ احتلال الأراضي الفلسطينية في عام 1967.
غزة تحولت إلى سجن هائل
يعيش في قطاع غزة الصغير (41 كم طول وبين 6 و12 كم عرض) والممتد على الساحل، أكثر من 1.8 مليون شخص، مما يجعله واحدا من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم مع أكثر من 4700 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. و يعيش أكثر من ثلث سكان قطاع غزة في ثمانية مخيمات أقيمت في عام 1949 بعد ولادة دولة إسرائيل لاستيعاب مئات آلاف الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم. وبعد حرب الأيام الستة انتقل قطاع قطاع غزة تحت الإدارة الإسرائيلية. وكان يتركز في هذا القطاع أكثر عناصر الحقن القابلة للانفجار. وإنه لفي مخيم جباليا، أحد المخيمات في غزة، قد بدأت الانتفاضة الأولى اشتعالها في ديسمبر 1987.
وفي أغسطس 2005، قررت الحكومة الإسرائيلية بقيادة ارييل شارون اخلاء قطاع غزة، مجبرة حوالي 8000 مستوطن إسرائيلي كانوا قد استقروا هناك على الرحيل. وإن كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، المعروف بمواقفه وأفكاره اليمينية المتطرفة، قد ذهب إلى حد معارضة حفنة من المستوطنين الإسرائيليين، فذلك لم يكن من منطلق المسالمة مع الفلسطينيين ولا تجاوبا مع تطلعاتهم القومية. لا على الإطلاق. فشارون كان قد توصل على يقين بأن الاستمرار باحتلال غزة قد أصبح صعبا جدا ومكلفا للغاية، ففضل أن يركز قواته في السعي على استيطان الضفة الغربية.
في الواقع، لقد قام القادة الإسرائيليون بتحويل قطاع غزة فعليا إلى سجن في الهواء الطلق، سامحين بمعبر واحد أو معبرين فقط يمكن لهم إغلاقهما في أي وقت، قاطعين بذلك اتصال سكان القطاع ببقية العالم. وبعد سيطرة حماس على غزة في عام 2007، فرضت الحكومة الإسرائيلية حصارا شبه كامل عليه.
فكانت العواقب وخيمة على السكان. فمع منع استيراد المواد الأساسية وكذلك الصادرات بشكل كامل، اضطرت الشركات والمؤسسات في القطاع على التوقف عن العمل. وصيد الأسماك، وهو النشاط الاقتصادي الرئيسي لسكان غزة، أصبح شبه مستحيل بسبب تقليص مساحة المناطق البحرية المسموح بها للفلسطينيين. وهكذا بات أكثر من 40٪ من الفلسطينيين في قطاع غزة وحوالي 70٪ من الشباب عاطلين عن العمل. وما زال 80٪ من السكان يعتمدون في عيشهم على المساعدات الغذائية اليومية التي تصلهم، أيضا بحسب أهواء السلطات الإسرائيلية. والحصار كان ولا يزال ينطبق على المنتجات الاساسية كالأدوية ومواد البناء، وكذلك البنزين والنفط الضرورية لتشغيل محطة توليد الكهرباء ومرافق تكرير المياه.
قطاع يخضع لتدخلات عسكرية دورية
منذ انسحابه من غزة، لم يتوقف الجيش الإسرائيلي عن القيام بعمليات عسكرية كلما استساغ له ذلك. فيقوم بشكل منتظم باستهداف النشطاء الفلسطينيين بصواريخ تقتل أيضا جميع أولئك الذين، لسوء حظهم، كاونوا متواجدين داخل أو بالقرب من المبنى المستهدف. وتعرض سكان غزة في الاعوام 2006، 2008 و 2012، لعمليات عسكرية كبيرة أدت إلى الكثير من الضحايا والدمار.
على مدى الواحد والخمسين يوما الذي دام عليهم الاعتداء الماضي، من 8 يوليو إلى 26 أغسطس 2014، تم استخدام حوالي 700 طن من الذخيرة من قبل الجيش الإسرائيلي، وهو ما يعادل اسقاط طنين اثنين من الذخيرة في الكيلومتر المربع الواحد. وأشار آخر تقرير أن عدد القتلى قد بلغ ال2188 قتيل في الجانب الفلسطيني، منهم 1658 مدنيا على الأقل، وأكثر من 11000 جريح. وتم تدمير 13٪ من مجموع المساكن في غزة جزئيا أو كليا وفر نحو 110000 شخص من القصف وهم لا يزالون بلا مأوى.
ومن أصل ال32 مستشفى ومركز صحي المتواجدين في القطاع، تضرر 17 منهم في حين تم تدمير ستة. وتضررت مرافق إمدادات المياه بشكل كبير فانقطعت المياه عن 450000 مدني. كما تم تدمير محطة الكهرباء الوحيدة في غزة الأمر الذي حرم السكان من الكهرباء نحو عشرون ساعة يوميا، مع كل العواقب التي يمكن تصورها على عمل المؤسسات الحياتية. كما لم يتجنب القصف البنية التحتية المرعاة من قبل الأمم المتحدة بما في ذلك المدارس.
لتبرير هذه الحرب الجديدة، ادعى القادة الإسرائيليون، كما في الحروب السابقة، نيتهم ايقاف الهجمات الصاروخية على اسرائيل. ليضاف هذه المرة "التهديد" المحتمل الذي تشكله الأنفاق التي تسمح بتسلل الكوماندس الفلسطينيين إلى إسرائيل.
ذلك وأن سياسية الجماعات الفلسطينية التي تستهدف السكان المدنيين تحت ذريعة مقاومة سياسة قادة إسرائيل هي ليست بسياسة اجرامية وحسب، بل أيضا غير فعالة لأنها تزيد من شعور انعدام الأمن لدى السكان الإسرائيليين، الأمر الذي يجعلهم ينغمسون أكثر بالوحدة الوطنية وراء الجيش والحكومة وبالتالي بتعزيز سياستهما.
ولكن مجرد ذكر نتائج هذه الحرب يمكننا الحكم على حجج الحكومة الإسرائيلية التي تمارس الإرهاب بشكل أكثر فعالية بكثير. فبحسب الجهات الرسمية، في حين تم قتل ستة مدنيين إسرائيليين، ادى الإرهاب الأعمى لدولة إسرائيل إلى آلاف القتلى على الجانب الفلسطيني. بوجه الهمجية التي أظهرها الجيش الإسرائيلي، على الثوار أن يكون متضامنين مع الفلسطينيين في غزة دون أي شروط.
ثوابت السياسة الإسرائيلية : القمع ومصادرة أراضي الفلسطينيين
يظهر هذا الهجوم الجديد المأزق الذي يتواجد به كل من الفلسطينيين والإسرائيليين. والمسؤولية عن هذا الوضع تقع على عاتق القادة الإسرائيليين الذين، منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948، رفضوا دائما الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، مستخدمين القوة لإخضاع ونهب أجزءا متزايدة من أراضيهم. وقد أدت هذه السياسة، في عام 1967، إلى احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية ولقطاع غزة.
وعندما اندلعت، في أواخر الثمانيات، الانتفاضة الأولى، تمة البرهنة عن عدم فعالية القمع لكسر الانتفاضة الفلسطينية. فانتهى الامر بالقادة الإسرائيليين على التوقيع، في عام 1993، على اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، المنظمة الفلسطينية الرئيسية التي كانوا يرفضون التفاوض معها حتى ذلك الحين، والتي كانوا يصفونها بالإرهابية.
فوافق القادة الإسرائيليون على منح حكم ذاتي محدود للغاية لإدارة فلسطينية سميت بالسلطة الفلسطينية، تقتصر على غزة وجزء صغير من الضفة الغربية. لكنهم رفضوا القبول بقيام دولة فلسطينية. كان الهدف الاول من هذه الاتفاقيات توكيل منظمة التحرير الفلسطينية مهام ضبط الشعب الفلسطيني الامر الذي أصبح صعبا على الجيش الإسرائيلي القيام به بشكل آمن له.
في الواقع، فإن "عملية السلام" لم تشهد إية بداية. فرئيس الوزراء الاسرائيلي الذي وقع على اتفاقات اوسلو لم يفعل شيئا غير الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو لم يلتزم بالاعتراف يوما بدولة فلسطينية. وحول هذه النقطة، كان رابين، الذي ما زال يقال عنه بأنه كان يريد السلام فعلا، واضحا بإجابته للصحفي الذي سأله عن إذا ما كان الاتفاق مع الزعيم الفلسطيني عرفات خطوة أولى نحو إقامة دولة فلسطينية، فقال : "إن الامر بالضبط عكس ذلك. فهذا اتفاق مؤقت من شأنه أن يسمح للفلسطينيين إدارة شؤونهم الخاصة (...) لكننا سنحافظ على أمن المستوطنات وعلى تأمين أمن الإسرائيليين المسافرين في الاراضي الممتدة على طول نهر الأردن حتى جنوب قطاع غزة. "
وقبل شهر واحد من اغتياله، كان رابين يردد دائما: "تطلعنا هو نحو حل دائم تشمل فيه دولة إسرائيل معظم أرض إسرائيل في عهد الانتداب البريطاني، وإلى جانبها، كيان فلسطيني يكون موطنا لمعظم السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية. نريد أن يكون هذا الكيان أقل من دولة، وأن يتولى إدارة حياة الفلسطينيين تحت سلطته بشكل مستقل. إن حدود دولة إسرائيل (...) سوف تكون أبعد من تلك التي كانت قائمة قبل حرب الأيام الستة. لن نعود الى حدود ال1967 ".
وفي نفس الوقت الذي يقوم فيه قادة السلطة الفلسطينية بالتعهد بالسيطرة على الشعب الفلسطيني وحتى بقمعه إن استلزم الامر، يواصل القادة الإسرائيليون سياسة الاستيطان. فاليوم يوجد هناك أكثر من 382000 مستوطن في الضفة الغربية و200000 في القدس الشرقية. وعددهم يستمر بالازدياد. وحكومة نتنياهو الحالية تدعمهم بشكل علني. فالأشهر الستة الأولى من عام 2014 شهدت وصول أكثر من 7500 مستوطن جديدة. وفي نهاية شهر أغسطس عام 2014 أعلنت السلطات الإسرائيلية الاستيلاء على 400 هكتار من الأراضي الواقعة جنوب بيت لحم في الضفة الغربية، وهو ما يشكل اكبر عملية سلب للاراضي خلال السنوات الثلاثين الماضية. للتذكير فإن تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق وفقا لاتفاقيات أوسلو ما زال ساريا حيث 60٪ من الأراضي لا تزال تحت الإدارة العسكرية الإسرائيلية.
السلطة الفلسطينية بين المعارضة والتطبيع
كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حتى أكثرها يمينا، واصلت، ولو قليلا، بالاعتراف بالسلطة الفلسطينية وذلك لدورها المفيد جدا، حيث أنها لعبت دور العازل مع جزء من سكان الضفة الغربية، مساهمة أيضا بقبول هؤلاء بمصيرهم.
لكن الحكومات الاسرائيلية لم تترك إلا مساحة ضئيلة لتحرك السلطة الفلسطينية، خصوصا بأنها تحتفظ بكل الوسائل للسيطرة عليها تماما. ففي مناسبات عدة، رفضت دولة إسرائيل تحويل الرسوم الجمركية التي من المفترض أن تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية، على التجارة الخارجية الفلسطينية وهي محصورة مع دولة إسرائيل.
ذلك أن 90٪ من التبادل التجاري الفلسطيني يحصل مع إسرائيل. وبعدم وجود عملة فلسطينية يستخدم الشيكل الاسرائيلي في معظم التبادلات الأمر الذي يسمح للحكومة الإسرائيلية بالسيطرة على النظام المالي الفلسطيني بأكمله.
حتى المساعدات لإعادة إعمار غزة التي تم منحها سوف يتم تمرير جزء منها عبر إسرائيل ومن ثم يعاد تمريرها للسلطة الفلسطينية. فكما سخر افيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي، بعد مؤتمر القاهرة الذي لم تشارك إسرائيل به، بالقول : "إن عملية إعادة الإعمار لن تتم من دوننا... إن لإسرائيل دور رئيسي في إعادة إعمار قطاع غزة "... بعد أن قامت بتدميره!
ولكن أبعد من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، تعود المسؤولية عن الوضع الحالي إلى السياسة التي تمارسها القوى الإمبريالية في المنطقة. فالحقيقة أن إمكانية الحكومة الإسرائيلية إنكار حقوق الفلسطينيين وشعورها بحرية التصرف حيالهم يعودان لإمكانيتها الاعتماد على الدعم غير المشروط من قبل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الاستعمارية. ففي منطقة الشرق الأوسط هذه، الاستراتيجية للغاية بالنسبة للمصالح الغربية، أظهر القادة الإسرائيليون قدرتهم على تعبئة الشعب الاسرائيلي وحثه على القتال بعزم ضد الدول العربية المجاورة وشعوبها. من هنا يأتي الدعم الدائم من قبل الولايات المتحدة التي تجد في إسرائيل حليفا يعول عليه أكثر من الأنظمة العربية في المنطقة الأكثر عرضة للضغوط من قبل شعوبها.
وفي سبيل فرض هيمنتهم في هذه المنطقة، ألبت القوى الامبريالية بين شعوب المنطقة. ومن زال من مصلحتها اليوم أن يستمر الخلاف القائم والذي يدفع اليهود والعرب ثمنا باهظا بسبب استمراره.
السلطة الفلسطينية، في حضن الامبريالية
ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تستغني عن وجود حلفاء لها في العالم العربي. والسلطة الفلسطينية هي واحدة من هؤلاء الحلفاء. لذلك فالولايات المتحدة مستعدة لدفع بضعة ملايين الدولارات كمعاشات المسؤولين في السلطة الفلسطينية، أو في سبيل اعادة بناء البنية التحتية الضرورية، كمحطة الطاقة، وذلك مع العلم بأن الطائرات الإسرائيلية على الأرجح سوف تدمرها مرة أخرى. في الواقع، تدين السلطة الفلسطينية بوجودها إلى المساعدات الدولية والتي من دونها لا يمكن أن تكفي ميزانيتها. فخلال السنوات 1994-2000، تراوح المتوسط حجم المساعدات الممنوحة للسلطة الفلسطينية بحوالي 500 مليون دولار سنويا. وهي قد تضاعفت ابتداءا من العام 2001 واستمرت في النمو في السنوات التالية. فكما أعرب دبلوماسي غربي لمراسل أثناء مؤتمر القاهرة، إن الاموال الممنوحة هدفها ضمان "الاستقرار". ولهذا، فإن التمويل يعود أولا إلى تأمين الشرطة الفلسطينية: 35٪ من ميزانية السلطة الفلسطينية مخصصة إلى الأمن وأكثر من نصف موظفيها ينتمون إلى الأجهزة الأمنية.
وكان لهذا التمويل أثرين رئيسيين: تطور أجهزة السلطة الفلسطينية، وبالتالي وزنها الاقتصادي، وكشبه نتيجة لذلك تطور فساد القيادة الفلسطينية. إذ أن الاموال سمحت لهذه الطبقة الاجتماعية بالازدهار والعيش حياة مريحة. فبين الأسر القديمة السلطة ورجال الاعمال الحديثي العهد الذين طوروا ثرواتهم بفضل صلاتهم مع مسؤولين في السلطة الفلسطينية، تسيطر هذه البرجوازية على الاقتصاد الفلسطيني الذي، وأن كان ضعيفا، يشكل مصدر ربح لهذه الأقلية. ويتوجب في هذا السياق ذكر عائلة المصري، حيث أن أقدم أفرادها منيب المصري البالغ من العمر 80 عاما، والذي يطلق عليه لقب روتشيلد الفلسطيني، قد حقق ثروة كبيرة قبل إنشاء السلطة الفلسطينية. ولكن هذا المتقرب من ياسر عرفات قد عرف كيف يدمج بين "وطنيته" ومصالحه التجارية. فهو يدير شركة باديكو المتواجدة في جميع قطاعات الاقتصاد والاتصالات والبناء. كما يدير بعض أعضاء العائلة شركات كبرى في مجال العقارات والقطاع المصرفي على وجه الخصوص. وهؤلاء الفلسطينيون الأثرياء ليسوا مجبورين معانة إذلال عبور الحواجز الإسرائيلية لأنهم يتمتعون ببطاقات VIPحصلوا عليها من قبل مسؤولين اسرائيليين. بالنسبة لهذه الطبقة المميزة، كان إنشاء السلطة الفلسطينية مصدرا لزيادة ثروتهم.
أما القسم الاكبر من الفلسطينيين فلا يزال يعيش في ظروف معيشية صعبة، خاصة بسبب البطالة التي تطال، حسب الارقام الرسمية، ما يقارب ثلث سكان الضفة الغربية، وما هو أكثر من ذلك في الواقع، بالتأكيد.
التنافس بين حماس وفتح
منظمة فتح، المكون الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، تترأس السلطة الفلسطينية منذ إنشائها. أدى فساد أعضائها وظهورها أمام الرأي العام كشريك في الضغوط التي تمارسها إسرائيل، إلى خيبة أمل لدى السكان الامر الذي مهد الطريق لمنظمة حماس. لنذكر بأن هذا الحزب الإسلامي قد استفاد في بداياته من دعم السلطات الإسرائيلية التي رأت فيه وسيلة لإضعاف الحركات القومية التي كانت تدعي العلمانية والتقدمية. لكن هذا التكتيك ارتد في نهاية المطاف ضد القادة الإسرائيليين عندما تمكنت حماس بدورها من حصد الشعبية في الشارع الفلسطيني برفع علم القومية الفلسطينية. وفي كانون الثاني 2006، فازت حماس في الانتخابات وشكلت حكومتها الخاصة. لكن أمام الضغوط الدولية وضغوط الدولة الإسرائيلية، ورفض حركة فتح للتنازل عن السلطة، اضطر الإسلاميون القبول بتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل ان تنتهي هذه الحكومة بالتفكك، ليسيطر حماس على قطاع غزة، في حين بقيت الضفة الغربية في يد حركة فتح.
في غزة، استخدمت حماس الاساليب الديكتاتورية نفسها الممارسة من قبل منافستها فتح، من مطاردة وسجن لمعارضيها. يضاف إلى ذلك "القوانين الأخلاقية" التي قام الإسلاميون بفرضها إلى حد ما في غزة، فكانت النساء أولى ضحايا هذه الأفكار الرجعية للغاية. وقد حاولت شرطة الآداب التدخل في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ولكنها، ولحسن الحظ، لاقت المقاومة الكثير من الفلسطينيين الرافضين الخضوع للقوانين والمحرمات الدينية.
وفي أبريل عام 2014، عادت فتح وحماس إلى الاتفاق مرة أخرى لتشكيل حكومة وحدة وطنية مكونة من تكنوقراط لا ينتمون بالمبدأ إلى أي حزب. فاجتمعت هذه الحكومة، التي تم تشكيلها في يونيو، لأول مرة في غزة يوم 9 أكتوبر 2014. لكن في الواقع وعلى الأرض، لا يقبل أي من الطرفين حتى الآن التخلي عن نفوذه في المنطقة التي يسيطر عليها. سوف يظهر المستقبل مدى ديمومة هذه "المصالحة". ما هو مؤكد هو أنه ليس لهذا الأمر أهمية بالنسبة لمصالح الغالبية العظمى من الفلسطينيين، ذلك لأن حركتي فتح وحماس، سواء كانتا كل على حدى أم في نفس الحكومة، تمثلان، كل بطريقتها الخاصة، مصالح الطبقات الاجتماعية الثرية، يضاف إليها بالنسبة لحماس، مصالح السلطات الدينية.
للتأكيد على الرئية الأممية وعلى الشيوعية
إذا، ما هي الحلول، و ما هو مستقبل الطبقة العاملة في هذه المنطقة من العالم الواقعة منذ عقود في مأزق القومية؟
في ظل هذا المأزق الدامي، أظهرت المظاهرات الذي وقعت في عدة مناسبات في إسرائيل ضد الحرب في غزة، أنه لا يمكن أن يكون هناك إجماعا وطنيا على هذه السياسة. ورغم قلة عددهم الشديدة، إن الذين قاموا بالتظاهر، رغم ضغوط اليمين القومي المتطرف، يمثلون الأمل بوضع حد لدوامة الحرب هذه. ومن المؤتمل أن يقوم في نهاية المطاف جزء من الإسرائيليين بمعارضة حكومتهم وبالاقتناع بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دون الاعتراف للفلسطينيين بحقهم بتكوين دولة خاصة بهم، وهو الأمر الذي ترفضه اسرائيل حتى الآن.
ولكن بالنسبة للفقراء والمستغلين، هذا النضال ضد الاضطهاد القومي لا يمكن أبدا فصله عن النضال ضد الإمبريالية. وإقامة دولة فلسطينية لن يكون كافيا لتغيير مصير الشعب الفلسطيني. إن دولة كهذه، أيا كانت حدودها ومدى سيادتها، لن تضع حدا للتخلف والفقر وعدم المساواة. بدلا من ذلك، فإنا سوف تجد مكانها ضمن النظام الإمبريالي، وكما السلطة الفلسطينية اليوم، سوف تسعى لأن يقبل الشعب بمصيره.
فبالنسبة لأشد الناس فقرا، الظلم لن ينتهي إلا بإسقاط النظام الإمبريالي برمته، هذا النظام المبني على أساس الهيمنة واستغلال العالم من قبل بعض القوى العظمى. هذا هو النضال الذي من شأن الكادحين والمستغلين كافة في المنطقة القيام به، يهودا وعربا. هذه هي المعركة التي يتوجب على البروليتاريا القيام بها في المستقبل عندما تسترجع مسار النضال الثوري والأفكار الأممية. وهو هذا المنظور الذي من الضروري أن يواصل الشيوعيون الثوريون ترويجه اليوم.
21 أكتوبر 2014