حراك "السترات الصفراء" يعبر عن غضب الطبقات الشعبية
بدت حكومة ماكرون في فرنسا في موقف صعب في أعقاب حركة الاحتجاج المسماة "السترات الصفراء". ففي مساء يوم 10 ديسمبر، وفي خطاب متلفز، أجبر ماكرون على الإعلان عن بعض التنازلات. وحتى لو كانت هذه التنازلات في الواقع قليلة، فإنها تمثل تراجعا سياسيأ. ومهما كانت استمرارية الحراك، فقد فقدت حكومة ماكرون مصداقيتها إلى حد كبير.
لقد ولد الحراك في نهاية أكتوبر مع دعوات على الإنترنت نشرها بعض المواطنين الغاضبين بسبب زيادة الضرائب على الدييزل والتي أقرت بحجة مكافحة التدهور المناخي. وتلقي هذه الضرائب بثقلها بشكل خاص على أولئك الذين، للتمكن من إيجاد سكن لائق، توجب عليهم العيش في بلدات تبعد عشرات الكيلومترات عن مقر عملهم، والذين بالكاد يكفيهم راتبهم الشهري الهزيل لتغطية مصاريفهم الحياتية. إن هذا ما يفسر بدء النضال على وجه الخصوص من المناطق البعيدة عن العاصمة، شاملا الحرفيين وبعض أصحاب شركات النقل ولكن أيضا، وبشكل متزايد، العمال، ومنهم ذوي الوظائف الأكثر هشاشة والأجور الرديئة، والذين يعيشون بعيدا عن المدن الكبرى، وغالبا ما يكونوا بعيدين عن النقابات العمالية.
طرح مسألة القوة الشرائية
وسرعان ما شهدنا حركة شعبية واسعة تخطت مسألة أسعار الوقود، ليشمل الاحتجاج زيادة الأسعار بشكل عام وتراجع القوة الشرائية وأيضا تدهور الخدمات العامة مثل النقل والطبابة، وصولا إلى عجرفة السلطة السياسية وبمقدمتها ماكرون.
إن نجاح الدعوة للاحتجاج في جميع أنحاء فرنسا في 17 نوفمبر / تشرين الثاني، مع إنشاء الحواجز لقطع الطرق العامة والسريعة ومداخل مراكز التسوق، مع ارتداء المشاركين للسترة الصفراء ـ وهي قد باتت إلزامية في جميع السيارات ـ قد عزز من زخم الحراك. ثم قرر المشاركون التظاهر في باريس وفي المدن الكبرى في 24 نوفمبر ثم في 1 و8 ديسمبر، وذلك على الرغم من القمع العنيف للشرطة. وعلى الرغم من الحملات الإعلامية المقلقة من قبل وسائل الاعلام والسياسيين المقربين من الحكومة للتنديد بالعنف وبالأضرار الناجمة عن الاحتجاجات، أظهرت استطلاعات الرأي أن أكثر من 80 في المئة من السكان يدعمون الحراك وأهدافه. وفي محاولة للاستفادة من الحراك لمأربهم السياسية، صرح مختلف مسؤولي المعارضة، من اليسار واليمين وحتى من أقصى اليمين، تفهمهم لمطالب الحراك في حين أن معظم "السترات الصفراء" قد عربوا عن انعدام ثقتهم بكل الاحزاب والنقابات معتبرين أن أيا منهذه المنظمات لا تمثل تطلعاتهم.
إضعاف حيل الحكومة
وتبين بسرعة عجز الحكومة عن وقف الحراك، وكان من بين أسباب هذا العجز استحالة الحراك، بسبب انطلاقه من القاعدة، تقديم "محاورين" كؤلئك المعتادين الذين كان من الممكن التفاوض معهم أو التظاهر بالقيام بذلك. وفي 3 ديسمبر بدأ الحراك في التوسع ليطال الشباب مع احتجاج العديد من طلاب المدارس الثانوية على تدهور ظروف التعليم. كما نال الحراك اهتماما كبير لدى الطبقة العاملة وأثار العديد من المناقشات، مع مشاركة العديد منهم في تأليف الحواجز ذلك رغم انهم لم يشعروا بالثقة الكافية للإضراب عن العمل في مصانعهم.
إن هذه الإشارات على إمكانية توسع الحراك وتفجيره للمطالب الاجتماعية قد لعبت بالتأكيد دورا في قرار الحكومة تقديم التنازلات. لقد تراجعت الحكومة، وقد شكل هذا إشارة واضحة على ضعفها السياسي وهي التي كانت تدعي القوة وعدم التراجع أمام الاحتجاجات. ولكن وإن شملت هذه التنازلات على سبيل المثال تعليق زيادة الضرائب ورفع الحد الأدنى للأجور، فإنها لا تشكل تعييرا للاتجاه العام لسياسة الحكومة، وقبل كل شيء فإنها لن تكلف شيأ للشركات الكبيرة والرأسماليين. هذا يعني أنهم سوف يسعون، بطريقة أو بأخرى، إلى جعل الطبقات الشعبية تتكلف تغطية تكاليف ما تم التنازل عنه اليوم.
وترافق تنازل ماكرون مع ضغوط من الحكومة ومعظم السياسيين ووسائل الإعلام ليقولوا بأن على الحراك التوقف الآن، للسماح بأن تحدث احتفالات نهاية السنة بهدوء والسماح بعودة الحركة التجارية بعد الانتكاس الذي أصابها. كما كثرت التنديدات بـ"العنف" الذي رافق الحراك، طبعا دون ذكر العنف الذي تقوم به الشرطة بوحشيتها والاعتقالات الجماعية التي قامت بها وقد بلغت أكثر من 2000 موقوف في يوم 8 ديسمبر وحده. وبدأ التكلم الآن عن محادثات سوف تنظم على مستوى مختلف الاقاليم والتي من المتوقع أن تستمر ثلاثة أشهر... من الواضح أن هذا يهدف إلى تمييع المطالب وخلطها بثرثرة لا نفع لها.
تغير المناخ الاجتماعي
ومع ذلك، ليس من المحتم أن تتمكن هذه المناورات من إيقاف تطور الحراك الذي يبدو أن العديد من المشاركين فيه مصممين على المتابعة. على أية حال فإن الحراك قد ترك بصمته على المجتمع وطرح مسألة الأجور المنخفضة والفقر والصعوبات المتزايدة للطبقات العاملة في مواجهة متتبعات الأزمة الاقتصادية ومتتبعات سياسة الحكومة المستجيبة لأوامر كبار الرأسماليين والصناعيين والممولين الذين يريدون إلقاء ثقل الازمة على الطبقة العاملة.
حتما، إن الأزمة الاقتصادية سوف تستمر في إثارة انتفاضات شعبية مماثلة سوف تحمل مطالب اجتماعية قد تبدو في البداية خليطا يشوبه العديد من التناقضات بموازاة تنوع الطبقات الاجتماعية المشاركة.
وحدها الطبقة العاملة، إذا ما شرعت بالحراك حول أهدافها وبأدواتها الخاصة، سوف تكون قادرة على وضع أهداف واضحة تفتح الأفاق أمام المجتمع وذلك بتهديدها الفعلي لسلطة الرأسماليين.
بتغييرها للمناخ الاجتماعي، وبإضعافها للحكومة، لقد فتحت حركة "السترات الصفراء" الطريق أمام إمكانية حدوث هذا الاحتمال.